10/31/2011

د/حمدي حسن أبوالعينين يكتب:كثير من السياسة وقليل من الإصلاح


ضاعت وتضيع ساعات المساء أمام شاشات التليفزيون‏,‏ يستولي عليها السياسيون ينفقونها في الادعاء بأنهم مصلحون‏,‏ وكل ما يقولونه لا يخفي نياتهم الشخصية ومصالح الأحزاب والتيارات التي ينتمون اليها‏ الجميع يمارس دعاية سياسية دون اهتمام بشعب يحتاج الي من يأخذ بيده نحو الفهم الذي يعينه علي اختيار نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يتعايش فيه الجميع.
كل مساء يتحدثون بحماس شديد عن جنة سوف يصنعونها علي الأرض وحلول ناجعة لكل المشكلات التي راكمتها السنون. يدفعنا القلق علي مصير بلادنا الي الاستماع اليهم والإنصات الي ما قالوه مرات وما سوف يقولونه مرات اخري كثيرة, فلا أحد يطل علينا غيرهم. نعلم أن أي محاولة لصناعة جنة علي الأرض لن تنتهي الا الي جحيم. ومع ذلك يصدقهم كثيرون متعبون خائفون راغبون في الهروب من المشكلات بالوعود. يتملقون في كل ليلة الذات المصرية المنهكة بقرون من الطغيان والاهمال والتهميش. هذا التملق يعني أننا جميعا متعلمون جاهزون لاختيار ديمقراطي حر. كنت أتمني لو أن ذلك كان صحيحا ولكن الحقيقة هي أننا جميعا بحاجة الي أن نعرف فنتعلم فنتخذ القرارات الصحيحة قلة جاهلة من الناخبين في الديمقراطية قد تكلف أمن المجتمع الشيء الكثير.
لسنا بحاجة الي السياسيين يتملقون كل مساء حكمتنا ووعينا والعمق الحضاري في شخصيتنا. فليس أسوأ من تملق الشعوب في وقت تحتاج فيه الي الحقيقة والمعرفة والحكمة والرشاد. أكذوبة رددتها أثينا فزالت, وصدقها الرومان فتهاوت إمبراطوريتهم, واغتر بها المماليك فوقعنا ضحايا الحكم العثماني أربعة قرون. ثم قادنا الزهو الكاذب الي قبضة المستعمر الأوروبي. العمق الحضاري في الشخصية المصرية لا يعني أبدا أننا نعي ونعرف كل شئ ولكنه يعني أننا قادرون علي الاستجابة الصحيحة للمعرفة إن وجدت. فالحرية والجهل لا يجتمعان أبدا. أين المعرفة وأين التوعية فيما يقوله السياسيون كل مساء؟ انتهت حواراتهم الي القوائم الفردية والنسبية نظاما للانتخابات القادمة ولكنهم في النهاية اكتشفوا أن الناخبين أنفسهم لا يعرفون شيئا عن هذا النظام المختلط, وكل ما فعلوه أنهم طالبوا غيرهم بتوعية الناس بالنظام الانتخابي الذي اختاروه. واشتبكوا طويلا حول الدولة المدنية دون أن يبذلوا أي جهد حتي يفهم الناس المعني الحقيقي للدولة المدنية ومدي الحاجة اليها في مصر بعيدا عن لي أعناق الكلمات والحقائق لخدمة معارضيها أو دعمها لمؤيديها.
لم يعد من المقبول أن نختزل الثورة المصرية في بضع مئات من السياسيين بينهم الطامح والمغامر, وبضع عشرات من المتحدثين يزيدون الموقف سوءا والمعرفة غموضا. لا أحد ينكر الحاجة الي حوارات السياسيين, فقط نريد ألا يذهبوا بكل صحف الصباح وجميع شاشات المساء. قليل من المساحة والوقت لحوارات المصلحين تساعدنا ونحن في مفترق الطريق علي الاختيار الصحيح. نحتاج الي أن نتعلم والتعليم فريضة. فالحرية بلا تعليم يحيط بها الخطر, كما أن التعليم بلا حرية لا ينفع كثيرا.
ربما كان السياسيون أكثر شعبية من المصلحين الحقيقيين الذين غابوا طويلا عن ساحات الحوار في بلادنا, وإذا كان الجمهور يستمتع بالسياسيين أكثر فإن حاجته للمصلحين أعمق وأنفع. فالمتعة ترف والحاجة ضرورة. في المرات النادرة التي ظهر فيها بعض المصلحين علي شاشة التليفزيون كان الحوار مختلفا وكانت المنفعة أكثر وأفضل. فالثورات إن نجحت تحتاج المصلحين أكثر مما تحتاج السياسيين حتي نكتشف الطريق الصحيح. ليس هناك سياسي بلا أجندة شخصية, وليس هناك مصلح حقيقي وله مصالحه الذاتية. وأزعم أن في مصر عشرات من المصلحين الذين يستطيعون ردم كثير من الفجوات في حوارات السياسيين.
بمقدورهم أن يتقدموا الصفوف توجيها وإرشادا نحو الكثير من المشكلات العالقة بلا حلول.
الرشوة الانتخابية ليست خصيصة مصرية. فمنذ أكثر من الفي عام قال المؤرخ الإغريقي بلوتارك أشد الأخطار علي حريات الشعوب تأتي من أولئك الذين ينشرون بين الناس عطاياهم وهباتهم, والرشوة الانتخابية بأخطارها عرض لمرض لا نعرف كيف نتخلص منه. والحرية التي جاءت بشائرها مع ثورة 25 يناير لا نعرف أهميتها ولا مداها وكيف نحيلها الي طاقة تعيننا علي صعود تلال التنمية. اليونانيون الذين قدموا للعالم أول اشكال الحرية السياسية والديمقراطية حرموا منها عصورا طويلة لأنهم كما قال جيبون أرادوا الأمن ورغد الحياة قبل الحرية ففقدوا الثلاثة معا. فالحرية التي أرادوها كانت فقط التحرر من المسئولية. ولم تعد اليهم الحرية بعد ذلك ابدا نريد أن نعرف كيف لا نرتد عن الحرية التي بشرنا بها في ثورة 25 يناير ولماذا لم يكن تاريخنا سوي سلسلة متصلة من الطغاة, عشرات الأسئلة تبحث عن إجابات قد نجدها عند الإصلاحيين القادرين علي إعادة تشكيل الوعي العام ومواجهة التحديات القادمة. شيء من الاهتمام بالرؤي الإصلاحية يصلح كثيرا مما أفسده بعض السياسيين طوال الأشهر المنصرمة ويذهب بالغموض الذي يكتنف حياتنا. وليس اقدر من وسائل الإعلام علي ذلك إن هي أدركت أن المسئولية تجاه المجتمع لا تقل أهمية عن الشعبية التي تريد تحقيقها.
القلم الجرئ..قلم المبدعين والقراء

0 التعليقات:

Best Blogger TipsComment here